حنين الغربـاء
قصة قصيرة
تأتي إجـازة الصيف ، لتكون محطة راحة واستجمام من عناء عمل وكدح
طوال ما سبقها من شهور العام .
والناس ـ كشأنهم في كل شيء ـ مذاهب شتى في قضاء هذه الإجازة .
فمنهم : من يقضيها في بلده ، بين أهله وأصحابه ، قانعاً بما أتيح له
من وسائل الراحة والهدوء .
ومنهم : من يشد الرحــال إلى جهات متعددة .
كل ينشد راحته ومتعته بالطريق التي تروقه وترضيه .
ويعود المغتربون إلي أوطانهم ، ليسعدوا بلقاء الأهل والأحبة ، والصحب والخلان
ويجددوا ما انقطع من عهود الوداد ، ومجالس الوفاء ، وذكريات الطفولة والشباب
فينسون عناء العمل ، ومشقة الأسفار ، ووطأة الاغتراب ، فيرجعون خلقاً آخر
لا عهد له بتلك المتاعب والهموم .
ومن الغرباء : أناس [ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ]
وحرموا نعمة العودة إلى الأهـل والديار ، من غير ذنب ارتكبوه ، ولا جرم اقترفوه
فهم ـ لذلك ـ في غربة دائمة ، وهمِّ مقيم ، وشوق إلى الأوطان موصول ، لا ينقطع ولا ينسى .
لقد استعصى على الأيام أن تبدله ، وتأبَّى على الأحداث أن تغيره ، فهو في القلوب محمول
وفي الصدور مكنون ، سواء ـ في ذلك ـ أظعن صاحبه أم أقام ، سرَه الدهر أو جاء بما يسوء .
وترى فريقاً منهم ـ لشدة الشوق والحنين ـ يشدون الرحال لزيارة الأقطار
المجاورة لأوطانهم ، يؤملون أن تصلهم نسمة من هوائها ، أو نفحة من عبير ورودها
وأزهارها ، مما لا تستطيع الحدود حجبه ، ولا القيود منعه وحبسه .
وصاحبنا ( أبو البراء ) : واحد من هؤلاء الناس الذين لم ينسهم طول البعد
ولا رخاء العيش في المهجر دياراً ولا أهلا ، وهذا ما دفعه لقضاء إجازته
في قطر متاخم لمسقط رأسه ، ومرتع شبابه ، عساه يحقق بعض ما حرمت نفسه
من واعد الأحلام وعذب الأمانيِّ !
حزم متاعه ، واصطحب أسرته في سفر غير قاصد ، وانطلق لوجهته .
ولما حطت رحاله حيث يمم ، قرر السكنى في أقرب موقع من حدود الوطن الحبيب .
تحقق له ما أراد ، فأقام في بيت ريفي متواضع ، لكنه جميل ، يقع فوق تلْعة مرتفعة
وحوله جنة زهت أشجارها ، وعذب ماؤها ، وطاب هواؤها .
لم يركن إلى الراحة والهدوء ، بل كان يسير الساعات ـ ذوات العدد ـ بين الأشجار
في سهل الأرض وحزنها ، وفى تلا عها والو هاد ، يتأمل ملكوت الله عـز وجل
ساهماً عما حوله ، متوهماً أنه في وطنه ودياره .
كان كل شيء يرشح وهمه إلى الحقيقة : طبيعة الأرض ، نوع الشجر ، برودة الهواء
وجوه الناس ، ملابسهم ، لهجتهم ، أصناف الثمر والخُضَر ، أنواع الطيور
طراز البنيان ، ينابيع المياه ، قطعان الماشية ، حُداء الرعاء ، غناء الحصادين
أهازيج الأعراس والأفراح ، مراسم الدفن والعزاء ، أرتال الشباب والشوابِّ
غادين إلى الحقول أو رائحين ، صور ومناظر ، يشاهدها أنىّ سار ، وحيثما أقام
يسعده مرآها ، ويطربه تكرارها لا يسأم من استعادة المشاهد ، ولا يملُّ من رجع الحديث .
إنه في لذة ونشوة ، لم يجد لها مثيلاً منذ أمد بعيد ، ولكم تمنى أن يدوم ما توهمه حقيقة
ليستكمل لذته ونشوته ، ويقنع نفسه أنه قد تخطى الحدود ، وحطم القيود
وعاد إلى الربوع التي نمته ، والأهلين الذين ولدوه ، والصحب الأولي افتقدوه .
وكثير ما كان يغمض عينيه ويردد :
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
مُنىً إن تكن فهي أجمل المنى
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا
وذات ليلة خرج من صلاة المغرب في المسجد المجاور لمسكنه ، وهم بالتوجه نحو بيته
حيث الأسرة بانتظاره ، لتناول العشاء في ضوء القمر ، فوق سطح المنزل
كما جرت عادتهم منذ وصلوا مصيفهم .
لكنه شعر هـذه الليلة ـ وكان القمر بدراً ـ بدوافع خفية تحثه على السير خارج البنيان
والتأمل في سكون الليل الساجي ، وضوء القمر الزاهي ، واستنشاق نسمات الشمال
وقد وصلت رخية عليلة من جهة الوطن والأحبة .
لم يستطع مقاومة خواطره ومشاعره ، وانطلق يرقب سير القمر وانعكاس سناه
على الصخور والأشجار ، والأودية والهضاب ، ولحظ تمايل ظلال الأشجار ـ مداً وجزراً ـ
تبعاً لمداعبات النسيم وجهة هبوبه ، فأثار هذا المنظر كوامن ما اختزنت نفسه من عواطف
وما أجن صدره من هموم وأفكار ، ومضى يدندن بكلام لا تكاد تسمعه أذناه :
إن كل شيء متحـرك ومتغير في هـذا الكون : الليل يغشى النهار [ يطلبه حثيثا ]
والقمر قدرت منازله [ حتى عاد كالعرجون القديم ، والشمس تجري لمستقر لها
ذلك تقدير العزيز العليم ] والنجوم مسخرات بأمر الله عز وجل .
الماء يجري في الأنهار ، والموج يتدافع في البحار ، والحَبُّ يشق الأرض صاعداً في نماء .
الطير في الهواء ، والسمك في الماء ، وماذرأ الله ـ تعالى ـ من الأناسيِّ ، والأنعام
والدواب ، كله يغدو ويروح ، في حركة دائبة ، منتظمة ، تجدد شباب الحياة والأحياء
حتى الهواء ، فقد أبى مألف اتجاه واحد ، بل تعددت مهبَّاته وأوقاته
ولولا ذلك لما عرفنا الصبا والدبور ، ولا الشمأل والجنوب .
نعم ، إن كل شيء متحرك ومتغير ، إلا هَّم قلبي ، فإنه جاثم ـ في الصدر ـ لا يبرح
مقيم بين الجوانح والحشا ، لا يتحول ، ولا يتبدل .
توالت السنون بالبأساء والنعماء ، وتعاقبت الأحداث بما سر وساء
وجد في الأمور أمور ، تبدلت ـ معها ـ القيم ، وتغيرت المفاهيم ، وساد الغمر
واضطُهد العليم ، توارى رؤوس الناس ، وعلت الذُّنابى والفروخ ، حصل كل ذلك ـ وغيره كثير ـ
وما أقاسيه وأمثالي ـ من معاناة وهموم ـ ثابت ، تزداد وطأته ، وتشتد قسوته
ولا نُحس له بين هذه المتغيرات بموضع ولا مكان !!
سرح الرجل مع حديث النفس ونجواها ، فلم يشعر بتعب ولا إعياء ـ رغم طول مسيره ـ
ونسي أن الصِّبْيَةَ وأمهم ينتظرونه على سطح المنزل ، لتناول العشاء تحت ضوء القمر .
وقادته الخطى إلى تلعة من تلك التـلاع المتناثرة في الفضاء الرحب
تسلق صخورها حتى علا قمتها ، وجلس فوق صخرة بيضاء ملساء ، وحيداً
بعيداً عن الناس والبنيان : القمر سميره ، والنجوم جيرانه ، ونسمات الشمال زاده وغذاؤه .
استقبل جهة الشمال بوجهه ، عسى أن يلوح له بارق ، أو يبدونْ من معالمها علم شاهق ، ولم لا ؟
إنه على مشارف الأوطان ، وليس ثمة فاصل ، إلا خط وهمي ، سموه الحـدود .
وفعلاً ، بدت له أنوار القرى والبلدان ، واضحة جلية ، يستطيع عدها
وحصر ما أدركه بصره منها ، بسبب ما بين البلدة وجارتها من مسافة مظلمة .
أدهشه المنظر ، وكاد ينعقد لسانه ، وتمتم مردداً : يا إلهي ، تلك قرانا وبلداتنا !
بالروعة المآذن ! إني أراها متميزة بارتفاعها واختلاف ألوان أنوارها
نعم ، إنها هي ، لقد أصبحت بعيدة على قرب ، قريبة على بعد
تصل منها نسمات الشمال رخية عليلة ، يحمل هبوبها أنفاس الأحبة ، ونشر حديثهم
وصدى مجالسهم ، حتى لكأنه رأي عين ، وسمع أذن ، ومشاركة وجدان .
ألا ماأنداك يا رياح الشمال ! وما أطيب ريَّاك ، فأهلاً بك من زائر حبيب
وافى بأخبار الأحبة وحديث الأوطان على ظمأ وشوق لدى النائي الغريب !
خبرينا ياريح الشمال ـ وقد اجتزت حوران والآل دونها ـ ما حال الأحبة على البعاد ؟
أما زالوا على عهدنا ؟ أم غيرهم النأي بعدنا ؟ ما حال مدارج طفولتنا
ومراتع شبابنا؟ أما زال خطُّنا بادياً في ثراها ؟ أم طمسته الريح فانطمس ودرس ؟
كيف الروابي والتلال ؟ أما زالت تذكر فتيانها وهم يعانقون الأزهار في سفوحها
ويتسلقون الصخور على قُنَّاتها ؟ ويجرون مع الآمال في جنباتها ؟
يرسمون المنى والغد المأمول على سوق أشجارها ، وينحتون واعد الأحلام في نقيِّ صفاها .
كيف الأودية والسهول ؟ أما زال الربيع يعتادها ، ويلون بساطها بزاهيات الألوان ووشي الجمال ؟
ألا سقيا لأيامنا بذياك الحمى وتلك الربوع ، سقيا لها ، ما كان أصفى عيشها
وأعذب وردها ، وأحنى أهلها !
عشنا مرحلتها بشمل جامع ، وحظ راتع ، العمر زهو ، والحياة ربيع
فلكم تتوق نفوسنا لشتائها الممطر ، وربيعها المزهر ، وصيفها المقمر !
وكم كان يشجينا خريفها بجيوش غيومه ـ وهى تغزو الصيف فى معقله ـ فتفل من عزمه
وتكسر حدة حره ، يرافقها هواؤه مفعماً بأنفاس الشتاء ، منذراً كل ذي روح
أن يأخذ الحيطة والحذر ، مناصباً العداء كل مخضَر من الزرع والنبات
مداهماً نضرة الأشجار ، معرياً لها من زاهيات الحلل ، ووشي الجمال
ناثراً زينتها فى رحب السهول ، ومضايق الوديان :
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
ورقاً مائتاً تهاوى على السهل
فغنت بـه الصبـا والدبـور
فيا لها من منازل زايلتنا السعادة حين غادرناها ، ووقف بنا رغد العيش عند مغناها.
ولهي ـ رغـم الرحيل عنها ـ محمولة في قلوبنا : حباً زاخراً ، وحنيناً صادقاً
وذكرى دائمة ، لا يقطعها بؤس ، ولا يضعفها نعيم .
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
إني إلى تلك المغاني عاشـق
فيها هيامي والحبيب الأكـرم
فيها ودادي مع مناي وبغيني
يقظان أذكرها وفيهـا أحلـم
خلجات قلبي تستفيض بذكرها
والأذن تطرب والجوارح تنعم
والعين تذرف عبرة رقراقـة
رمزاً لحبي والتشوق أعظـم
سائليها يا ريـاح الشمال ، أما اشتاقت لبنيها الذين كانوا صدوراً في مجالسها
وبدوراً في جنباتها ، وأزهاراً في زاهي روضاتها ؟ يزيدون جمالها جمالاً ، وخيرها عطاء !
أما تساءل روضها الأغنّ عن سبب غيابهم ، وسر بعادهم ؟
أترينه يحنّ إليهم كما يحنون إليه ؟
أو يشتاقهم كشوقهم لماضي عيشه وسالف عهده ؟
يارياح الشمال ، قصي علينا ـ وأنت حديثة عهد بالديار ـ أحاديث السمر ، وجلسات السهر
وما يجري فى نوادي قومنا والربوع .
أسمعينا حوار المتحاورين ، وعتاب المتعاتبين ، ومناجاة المحبين
وهمسات العاشقين ، انقلي إلينا صدى تغريد الأطيار ، وحفيف الأشجار
وخرير الجداول ، وأنات النواعير ، وغناء الحصادين ، وأهازيج الأفراح
ونشيج الأتراح ، وندب الثكالى ، وأهات المعذبين رددي على مسامعنا حُداء الرعاء
وأنين الناي منهم فى الأصائل والغروب .
فطالما شجيت على الناي قلوب ، وحنَّ مشتاق ، وتذكر محزون ، وبكى غريب !
خبريهم : أن نفوسنا إلى ديارنا مشتاقة ولمدارج طفولتنا توَّاقة .
نحن إليها حنين النيب إلي فصلانها ، والطير إلى أعشاشها وغدرانها
نكاد نسير إليها على غوارب السحاب ونطير بخوافي العقاب
ولكنَّ السعد مدبر والجناح كسير .
وكيف لا نحنّ إلى ديار ناغينا الهوى فى مهدها ، ورضعنا أفاويق الحب من غمامها
وفى ظلال دوحها ، فكانت المرضع الرؤم والقلب العطوف .
خبرينا عن الجداول والأنهار ، والينابيع والسواقي ، أ مازال ماؤها عذباً زلالاً ؟
أم ناله من التعكير والتكدير ما نال سواه ؟ أما اشتاقت مياهها للأيدي المتوضئة ؟
أوَ ما حنَّت رياضها للركع السجود ؟
يا رياح الشمال ، قصّي علينا أخبار البساتين والكروم ، فعهدي بها تزهو جفناتها
بعناقيد العنب ، ويحاكى رمانها قناديل الذهب .
أما زال الأحبة ـ كسابق العهد ـ يهجرون المنازل والقصور ليتفيأوا ظلالها
ويسمروا تحت معرشاتها ، وينعموا بصافي هوائها ، وطيب جناها ، ونغمات أطيارها ؟
آه ، كم تشتاق النفس إلى أريج أزهارها ، وشذي ياسمينها ، وعطر ورودها
ممزوجاً بأصوات المؤذنين ، وتسبيحات الموحدين ، وهم غادون إلى صلاة الفجر ، ومنها عائدون .
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربا
وما أحسن المصطاف والمتربعا
ليت شعري أيصلنَّ الدهر ما تصرم من ماضي عيشنا ؟ وتَرجع عشيَّاتُنا بذياك الحمى ؟
فنفترش القش ببيدر البلد ؟ ونخوض في السواقي والأنهار ، ونجني من جنباتها
الحَبَقَ والريحان ؟ أيعود لنوادينا روادها ، ولمجالسنا أنسها وصفاؤها
ويلتئم شملنا بالأحبة مثل ما كنا : إذ العيش غض والزمان خصيب !
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
جنب الغدير مقامنا
نتفيّا غصناً زاهـرا
والطير تصدح فوقنا
فتهيج حباً زاخـراً
أيام عمر قد مضت
والقلب غفل مادرا
أن الزمان يخونـه
ويُجدُّ عيشاً آخـرا
هل سيرانا القمر ـ من جديد ـ في تلك البساتين والحقول ، نساهر النجم ونرعى مسيره ؟
كلانا ألف السهاد ، وعاف الرقاد ، ولم يكتحل جفناه بغمض أو منام .
كان القمر ينتظر الأفول ، ونحن نرقب تشقق فجر جديد ، تلوح معه بشائر الفرج
والتمكين لرسالة الخلود .
إيه يا رياح الشمال ، لقد جار غريمنا وقسى ، حتى لكأنه طالبُ وَتْرٍ أضل غريمه
فلا هو مدرك بغيته ، فيشفي غيظ صدره ، ولا هو ناسٍ ثأره ، فيريح ويستريح .
على أنه إن يكن ثمة جناية فلسنا جناتها ، أو يكن هناك خيانة فلسنا أربابها ، ولا أنصارها
لم نكن من دعاتها ـ علم الله ـ وكلنا بحرِّها اليوم صالي ..
إي والله ، لسنا من جناتها ، ولا من دعاتها ، ففيم نصلى بحرها ؟
وتنالنا ـ دون جناتها ـ آثار ضرها وشرها !
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
وجرمٍ جرَّه سفهاء قوم
وحل بغير جارمه العذاب
يا رياح الشمال ، ما حال مساجدنا وروادها ، ومحاريبها وعبادها ؟
أما زال الأذان على منائرها بلاليَّ اللحن ، ووعظ منابرها سليم النهج ؟
كيف شباب الدعوة وشيوخها ؟ أما مازالوا يطلعون في سمائها أنجماً زاهرات
ويموجون بين سواريها أبحر خير زاخرات ؟ ألا ليت الأمر كما نحب !
غير أن القلب ـ على البعد ـ يكاد يحس حزنها وأساها ، ويسمع شجوها وشكواها
ولكأن هاتفاً من وراء السديم يجيب :
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
تغيَّر المسجد المحزون واختلفت
على المنابر أحـرار وعبـدان
فـلا الأذان أذان فـي منارتـه
إذا تـعـالـى ولا الآذان آذان
ويتجاوب مع رجع الصدى نبض قلبي ، وعُرام مشاعري ، ويغلبني الأسى والذهول
لخفوت أَلَقِها ، وضعف صوتها ، وعجز أهلها ..
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
آسى لمحنتها أرثي لغربتها
الجرح دامٍ ودمع العين هتَّان
وبينما هو مستغرق في تأملاته ومناجاته أحس بنسمة شديدة البرودة تلامس وجهه
تلفت من حوله فإذا القمر يتضيف إلى الغروب ، والليل قد مضى شطره أو يزيد .
أفاق من شروده ، وتنبه لما سببه غيابه من قلق لزوجه وأولاده ، فعاد إليهم مسرعاً
ليجدهم ساهرين ـ مع بقايا ضوء القمر ـ ينتظرون مقدمه
كان القلق بادياً على الوجوه ، وتحمل قسماتهم أكثر من سؤال واستفسار !
بادرهم بالتحية ، وأخذ مجلسه بينهم ، وأطلق تنهيدة مجهد ، وأنشد متمثلاً :
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
بالشام أهلي وبغداد الهـوى وأنـا
بالرقمتيـن وبالفسطـاط إخوانـي
وما أظن النوى ترضى الذي صنعت
حتى تُشافِه بي أقصـى خراسـان
ما إن أتم كلامه حتى بادره ولده الصغير ـ وكانت له عليه دالة أكثر من سواه ـ
قائلاً : لقد أبطأت بالعودة يا أبي ، قلقنا عليك كثيراً ، واشتد بنا الجوع أكثر ،
من طول الانتظار !! تبسم الوالد وضم إليه صغيره وقال :
<--xx-- type=text/--xx-->doPoem(0)
فلا تعجب صغيرى إن خَطْوي
على مقدار إيقـاع الزمـان
ويبدو ـ أيها الحبيب ـ إن إيقاع الزمان وألحانه بعيدة عما ألفته آذاننا
وعرفته أذواقنا ، ولا بد من يوم يلحِّن فيه الزمان نشيد الفطرة ، ويوقعه حسب نغمات الأذان :
[ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ(5) ]
منقول